فى يوم
الحديبية دخل رسول اللَّه عليها، يشكو إليها عدم إجابة المسلمين لمطلبه حين
أمرهم بالنحر والحلق. فقالت - رضى اللَّه عنها - للنبى : يا رسول اللَّه!
اخرج فلا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، ففعل
النبي ذلك بعد أن استصوب رأى أم سلمة، عندها قام الناس فنحروا، وجعل بعضهم
يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمَّا.
وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بنى فراس، وكان أبوها يعرف بلقبه (زاد
الراكب)؛ لأنه كان جوادًا، فكان إذا سافر لا يترك أحدًا يرافقه ومعه زاد
إلا وحمله عنه. وكانت أم سلمة -رضى الله عنها- أكبر زوجات النبي (.
عندما علم المسلمون المهاجرون إلى الحبشة بدخول عمر بن
الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب في الإسلام ازداد حنينهم لمكة وللرسول (،
فعادت أم سلمة وزوجها عبد اللَّه بن عبد الأسد -الصحابى الجليل وصاحب
الهجرتين وابن عمة رسول اللَّه (- الذي استجار بأبى طالب بن عبد المطلب
فأجاره، لكن أبا طالب لم يلبث أن فارق الحياة، فاشتدت العداوة بين قريش
والمسلمين، وأمر النبي ( أصحابه حينئذ بالهجرة إلى يثرب.
تقول أم
سلمة في هذا: إنه لما أراد أبو سلمة الخروج إلى المدينة، أعد لى بعيرًا، ثم
حملنى عليه، وحمل معى ابنى سلمة في حجري، ثم خرج يقود بى بعيره.
فلما رأته
رجال بنى المغيرة، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت
صاحبتنا هذه، عَلام نتركك تسير بها في البلاد؟! فنزعوا خطام البعير من يده،
فأخذونى منه عنوة. وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد - قوم أبى سلمة - فقالوا:
لا واللَّه لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنى سلمة
بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق بنوأسد، وحبسنى بنو المغيرة عندهم، وانطلق
زوجى أبو سلمة إلى المدينة فَفُرِّق بينى وبين زوجى وبين ابني، فكنت أخرج
كل غداة فأجلس بالأبطح، فما زلت أبكى حتى مضت سنة أو نحوها.
فَمَرَّ
بى رجل من بنى عمى - أحد بنى المغيرة - فَرأى مابي، فرحمني. فقال لبنى
المغيرة: ألا تُخْرِجون هذه المسكينة؟! فَرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين
ابنها. ومازال بهم حتى قالوا: الحقى بزوجك إن شئت. وردّ على بنو عبد الأسد
عند ذلك ابني، فرحلت ببعيرى ووضعت ابنى في حجرى ثم خرجت أريد زوجى
بالمدينة، ومامعى أحد من خلق اللَّه.
حتى إذا كنت
بالتنعيم - مكان على فرسخين من مكة - لقيت عثمان بن طلحة، فقال: إلى أين
يا بنت أبى أمية؟ قلت: أريد زوجى بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا
واللَّه، إلا الله وابنى هذا. فقال: واللَّه مالك من مَتْرَك. وأخذ بخطام
البعير فانطلق معى يقودني، فواللَّه ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم
منه ؛ إذا نزل المنزل أناخ بى ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا
الرواح قام إلى بعيرى فقدمه ورحله، ثم استأخر عنى وقال: اركبي. فإذا ركبت
واستويت على بعيري، أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي.
فلم يزل
يصنع ذلك حتى قدم بى المدينة. فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء -
وكان بها منزل أبى سلمة في مهاجره - قال: إن زوجك في هذه القرية، فادخليها
على بركة اللَّه. ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
فكانت أم
سلمة بذلك أول ظعينة (مهاجرة) دخلت المدينة، كما كان زوجها أبو سلمة أول من
هاجر إلى يثرب من أصحاب النبي (، كما كانا أولَ مهاجِرَيْنِ إلى الحبشة.
وفى المدينة
عكفت أم سلمة - رضى اللَّه عنها - على تربية أولادها الصغار ؛ سلمة وعمر
وزينب ودرة. وجاهد زوجها في سبيل اللَّه، فشهد مع النبي ( بدرًا وأحدًا،
واستعمله ( على المدينة إبّان غزوة العشيرة ؛ نظرًا لإخلاصه وحسن بلائه،
وجعله أميرًا -مرة- على سرية، وكان معه مائة وخمسون رجلا منهم "أبو عبيدة
بن الجراح"؛ وذلك عندما بلغ النبي ( أن بنى أسد يُعِدُّون لمهاجمته في
المدينة. فعاد أبو سلمة مظفرًا، لكن جرحه الذي أصيب به يوم أحد انتكأ بصورة
شديدة أودت بحياته، فمات شهيدًا.
فقالت
له أم سلمة يومًا: بلغنى أنه ليس امرأة يموت زوجها، وهو من أهل الجنة، ثم
لم تتزوج بعده، إلا جمع اللَّه بينهما في الجنة، وكذلك إذا ماتت المرأة
وبقى الرجل بعدها.. فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي، وألا أتزوج بعدك. قال:
فـإذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهمَّ ارزق "أم سلمة" بعدى رجلا خيرًا منى لا
يحزنها ولا يؤذيها.[ابن سعد]. فلما انتهت عدتها من وفاة زوجها -رضى اللَّه
عنه- تقدم أبو بكر، ثم عمر -رضى اللَّه عنهما- ليخطباها ولكنها ردتهما
ردًّا جميلاً.
وكان
رسول اللَّه ( يواسيها ويخفف عنها لما توفى زوجها، ويقول لها: "قولي:
اللهم اغفر لنا وله، وأعقبنى منه عقبى صالحة" [أحمد ومسلم وأبو داود].
ومرت الأيام،
وأراد رسول اللَّه ( أن يتزوجها، فأرسل حاطبَ بن أبى بلتعة يخطِبها له.
فقالت السيدة أم سلمة: مرحبًا برسول اللَّه وبرسله، أخبر رسول اللَّه ( أنى
امرأة غَيْرَى (شديدة الغيرة)، وأنى مُصْبِيَة (عندى صبيان)، وأنه ليس أحد
من أوليائى شاهدًا. فبعث إليها رسول اللَّه ( يقول: "أما قولك: إنك امرأة
مصبية، فالله يكفيك صبيانك (وفى رواية: أما أيتامك فعلى اللَّه ورسوله)،
وأما قولك: إنك غَيْري، فسأدعو اللَّه أن يذهب غيرتك، وأمـا الأوليـاء،
فليـس منهم شاهـد ولا غائـب إلا سيرضى بي" [ابن سعد].
فلما وصلها
جواب رسول اللَّه ( فرحت به، ووافقت على الزواج منه(؛ فتزوجها ونزلت أم
سلمة من نفس النبي ( منزلا حسنًا؛ فكان ( إذا صلى العصر دخل على أزواجه
مبتدئًا بأم سلمة ومنتهيًا بعائشة؛ رضى اللَّه عنهن أجمعين.
وقد شهدت أم
سلمة -رضى الله عنها- مع رسول الله ( فتح خيبر، وفتح مكة وصحبته في حصار
الطائف، وفى غزوة هوازن وثقيف، وكانت معه في حجة الوداع.
وظلت السيدة
أم سلمة تنعم بالعيش مع رسول الله ( حتى لحق بالرفيق الأعلى.
وتعد السيدة
أم سلمة - رضوان اللَّه عليها - من فقهاء الصحابة.
رُوِى عنها
387 حديثًا، وأُخرج لها منها في الصحيحين 29 حديثًا، والمتفق عليه منها 13
حديثًا، وقد روى عنها الكثيرون.
وامتد عمرها
فكانت آخر من تُوُفِّى من نساء النبي (، وكان ذلك في شهر ذى القعدة سنة 59
للهجرة، وقد تجاوزت الثمانين عامًا.
لما أُسرى بالنبى ( شمَّ ريحًا طيبة، فقال: "يا جبريل ما
هذه الريح الطيبة؟" قال: "هذه ريح قبر الماشطة وابنيها وزوجها"
ماجة].
انتشر أمر موسى- عليه السلام - وكثر أتباعه، وأصبح المؤمنون
برسالته خطرًا مستمرّا، يهدد فرعون ومُلكه، وظل فرعون فى قصره فى حالة
غليان مستمر يمشى ذهابًا وإيابًا، يفكر فى أمر موسى، وماذا يفعل بشأنه وشأن
أتباعه، فأرسل فى طلب رئيس وزرائه هامان ؛ ليبحثا معًا ذلك الأمر، وقررا
أن يقبض على كل من يؤمن بدعوة موسى، وأن يعذب حتى يرجع عن دينه، فسخَّر
فرعون جنوده فى البحث عن المؤمنين بدعوة موسى، وأصبح قصر فرعون مقبرة
للأحياء من المؤمنين باللَّه الموحدين له، وكانت صيحات المؤمنين وصرخاتهم
ترتفع من شدة الألم، ووطأة التعذيب تلعن الظالمين وتشكو إلى ربها صنيعهم.
وشمل التعذيب جميع المؤمنين، حتى الطفل الرضيع لم
ترحمه يد التعذيب، فزاد البلاء، واشتد الكرب على المؤمنين، فاضطر كثير منهم
إلى كتمان إيمانه؛ خوفًا من فرعون وجبروته واستعلائه فى الأرض، ولجأ
الآخرون إلى الفرار بدينهم بعيدًا عن أعين فرعون .
وكان فى قصر فرعون امرأة تقوم بتمشيط شعر ابنته وتجميلها،
وكانت من الذين آمنوا، وكتموا الإيمان فى قلوبهم، وذات مرة كانت المرأة
تمشط ابنة فرعون كعادتها كل يوم، فسقط المشط من يدها على الأرض، ولما همَّت
بأخذه من الأرض، قالت: بسم اللَّه. فقالت لها ابنة فرعون: أتقصدين أبي؟
قالت:لا. ولكن ربى ورب أبيك اللَّه، فغضبَتْ ابنة فرعون من الماشطة وهددتها
بإخبار أبيها بذلك، ولكن الماشطة لم تخف، فأسرعت البنت لتخبر أباها بأن
هناك فى القصر من يكْفُر به، فلما سمع فرعون ذلك؛ اشتعل غضبه، وأعلن أنه
سينتقم منها ومن أولادها، فدعاها، وقال لها : أَوَ لكِ ربٌّ غيري؟! قالت:
نعم، ربى وربك اللَّه . وهنا جُنَّ جنونه، فأمر بإحضار وعاء ضخم من نحاس
وإيقاد النار فيه، وإلقائها هى وأولادها فيه، فما كان من المرأة إلاَّ أن
قالت لفرعون : إن لى إليك حاجة، فقال لها: وماحاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع
عظامى وعظام ولدى فى ثوب واحد وتدفننا، فقال: ذلك علينا. ثم أمر بإلقاء
أولادها واحدًا تِلْوَ الآخر، والأم ترى ما يحدث لفلذات كبدها، وهى صابرة
محتسبة، فالأولاد يصرخون أمامها، ثم يموتون حرقًا، وهى لا تستطيع أن تفعل
لهم شيئًا، وأوشك الوهن أن يدب فى قلبها لما تراه وتسمعه، حتى أنطق اللَّه
-عز وجل- آخر أولادها -وهو طفل رضيع- حيث قال لها: يا أماه، اصبري، إنك على
الحق.
فاقتحمتْ المرأة مع أولادها النار، وهى تدعو اللَّه أن يتقبل
منها إسلامها، فضَربتْ بذلك مثالاً طيبًا للمرأة المسلمة التى تعرف اللَّه
حق معرفته، وتتمسك بدينها، وتصبر فى سبيله، وتمُتَحن بالإرهاب، فلاتخاف،
وتبتلى بالعذاب فلا تهن أو تلين، وماتت ماشطة ابنة فرعون وأبناؤها شهداء فى
سبيل الله، بعدما ضربوا أروع مثال فى التضحية والصبر والفداء.